تربويات: كيف ترهق أجرة المدرس ميزانية الدولة ؟ (قصص افتراضية من يوميات مدرسة)
إنهم لا يدفعون لنا الأجرة المناسبة لمجهودنا! (تربويات)
هكذا رددت زينب مع نفسها ذات مساء، بعد أن أرهقها الجهد المضني مع التلاميذ، سيدة في الأربعين من العمر، تدرس المستوى الابتدائي، وتعمل بأحد الفرعيات بالعالم القروي.
عشقت المهنة كرسالة قبل أن تفكر في الأجرة (تربويات)
عشقت المهنة منذ طفولتها، واتخذتها مشروع حياة، وهدفا واجب التحقق، كدت، واجتهدت، ودفنت نفسها بين الكتب شهورا وأعواما، لتصل إلى هذا الحلم، بعد أن تأثرت بمدرساتها السابقات، رأت فيهن القدوة الحسنة، والنموذج الطيب، الذي يبعث على الفخر والاعتزاز، خاصة أنهن من ألهمنها لنهج سلوك طيب في حياتها، والتحلي بمكارم الأخلاق، فانقذنها من الضياع، إلى جانب مدرسين آخرين نقشوا في عقلها وفكرها بماء من ذهب، مناهج وعلوم ظلت راسخة في ذهنها إلى اليوم، فقد رأت في المهنة رسالة سامية، قبل أن ترى فيها جانبها المادي الصرف، غير أن هذا الأخير يطرح نفسه اليوم، وبحدة كبيرة.
دراهم معدودة بقيت من أجرة الشهر (تربويات)
بعد أن وجدت محفظة نقودها فارغة، إلا من وريقات قليلة من فئة 20 درهما، لا يمكن أن تكفيها حتى نهاية الشهر، وهي المدرسة المخلصة، المتفانية في عملها، والتي ترفض بشكل قاطع العمل بالساعات الإضافية لتحسين دخلها، حتى لا يؤثر على عملها داخل القسم، تريد أن تتفرغ لأطفال اعتبرتهم مثل أبنائها. ولكن المسؤولين في بلدها يعتبرون التعليم مرهقا لكاهل الدولة، تنفق فيها ميزانية كبيرة، فهو في نظر العديد منهم قطاع غير منتج، ونسوا أن التعليم هو أكبر منقذ للبلد، كيف لا؟ ومن خلاله نحارب الجهل، والأمية، ومن تم نحارب الفساد والمفسدين، لأن الجهل إذا تفشى سينتشر معه الفساد والجريمة، وهذا هو الخراب الحقيقي، الذين لا تنفع معه ميزانية، والذي سيرهق الدولة حتى يقضي عليها حقا، وكما قال ديريك بوك :" إذا كنت تعتقد أن كلفة التعليم باهظة الثمن، فلتجرب كلفة الجهل"، فالدول التي عرفت قيمة المدرس، رفعت أجرته إلى أعلى مستوى حتى أضحت تعادل أجرة وزير، طبعا لأن من علم الوزير في الأصل مدرس، والطبيب والمهندس...علمه في الأصل مدرس
أجرتي لا تكفي دوائي! (تربويات)
كلفة دواء زينب باهضة، بسبب المرض المزمن الذي تعاني منه، مرض القلب، الذي تأزم أكثر بسبب ضغط العمل، والتوتر الذي يسببه شغب التلاميذ، وصعوبة تدريسهم، في ظل الاكتظاظ الكبير، فكل فصل، يضم خمسين تلميذا وتلميذة، وعليها أن تضبط الفصل، وتدرس بمنهجية جيدة، ويحصل المتعلمون على نقط ممتازة، وإلا الخلل فيها، فهي الأستاذة الفاشلة التي لم تستطع تغيير مستوى التلاميذ والتأثير فيهم إيجابا، للحصول على نتائج أفضل، أما الاكتظاظ في نظر المسؤولين، فمجرد عارض، وتحدي تمتحن فيه جدارة الأستاذة، وتوضع على المحك.
تضطر زينب لشراء الدواء من صيدلية الحي دون أن تدفع ثمنه في اللحظة والآن، لأنها لا تملك الثمن كاملا، فالصيدلي يأخذ حقه آخر كل شهر، من أجرة زينب بالتقسيط، والتأمين الصحي، لا يعوض الدواء، إلا بعد أداء ثمنه كاملا، ادفع أولا، ثم انتظر التعويض، الذي يأتي أو قد لا يأتي، لأن الأدوية الغالية جدا ترهق كاهل الدولة.
أجرتي لا تكفي ثمن مسكني! (تربويات)
تدفع زينب ثمن الكراء، من أجرة الدولة، لأن مساكن النواحي القروية، هناك حيث تدرس لا تصلح، ولا تحفظ كرامة الآدمي، لذا قررت أن تصون كرامتها، وتشتري أمنها، من خلال كراء بيت في المجمع السكني القريب من الفرعية التي تدرس بها، والمبلغ المحدد للكراء يبتلع نصف أجرتها.
مصاريف زينب الشهرية أكبر من أجرتها، فهي تتوزع بين الدواء، الكراء، وما تبقى تنفقه على المعيشة، أما اللباس، فرفاهية زائدة، إنها تدرس بالبركة، ولولا الديون، والشراء بالتقسيط، لما استطاعت زينب أن تكفي حاجتها، ويأتي مسؤول حكومي ليقول لنا بكل جرأة، التعليم يرهق ميزانية الدولة.
أجرتي لا تكفي لمساعدة عائلتي ! (تربويات)
زينب وحيدة أبويها، كلما تذكرت واقع حالهما شعرت بالغبن والقهر، رغم فقرهم علموها، وفروا من طعامهم ومعيشتهم، ليشتروا لها ثمن الكتاب، وتمنوا من أعماق قلبهم أن تكون المنقذ لهم، بعد أن حصلت على الإجازة، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بهجة وفرحة بالشهادة العليا، التي لم يحصل عليها أحد سواها، في القرية منذ زمن طويل، ولأنها طموحة ومتفوقة، نجحت في مهنة التعليم بكل يسر وسهولة، مهنة لطالما حلمت بها، غير أن أحلامهم تحطمت على أرض الواقع، فالمال الذي ترسله لهم لا يكفي لآداء فاتورة وجبة عشاء كاملة، في مطعم متواضع، فالمرض الذي أصابها، ومصاريف التنقل والكراء، أزمت الوضع، وشهور مرت دون أن ترسل درهما واحدا لأسرتها، الأمر الذي يؤرقها، ويقض مضجعها.
من مدرسة إلى كسابة، المهم أجرة إضافية! (تربويات)
فكرت زينب في العمل بالمدارس الخاصة، المحادية للفرعية، غير أن صحتها لا تسعفها، ووقتها لا يسعها، وتخاف من أن يؤثر عملها الإضافي على عملها الرسمي، فتعيش أزمة ضمير، عندما تعجز عن الموازنة، والتعليم سواء العمومي أو الخصوصي، يستنزف كل طاقة المرء، لأنك تعمل بعقلك، وأعصابك، وكل ذرة في جسدك، لكنها تحتاج المال، تحتاجه لأداء الضروريات، أما الكماليات فلا مجال لذكرها، أو حتى التفكير فيها، لكن الأمر جدي، لا بد من دخل إضافي.
المحنة تتكرر كل شهر، والأجرة لا تكفي لسد الحاجيات الضرورية، كل هذا جعل زينب تقرر الخلاص من محنتها، بأن تكون إيجابية، وأن تعمل في مجال آخر، بعيدا كل البعد عن تخصصها التربوي، اقترضت مالا، واشترت بعض المواشي، وأودعتها عند أحد الكسابين، لتبيعها في عيد الأضحى، ومواسم الحج...، قد يكون الأمر غريبا على امرأة عشقت التعليم، لتتحول إلى كسابة، أو ربما جزارة ، إذا اقتضى الأمر، المهم، أن تحقق دخلا إضافيا، وكفى.
لم تندم زينب على اختيارها مهنة التعليم، لأنها أحبتها بصدق، وتعلم سلفا عن أجرتها لا تقارن بمهن أخرى، لكنها أحبتها، لأنها لم تراهن على تطوير المال والثروة، بل راهنت على تطوير الإنسان.
ختاما:
إن محنة زينب تتكرر مع أسر عديدة، من رجال ونساء التعليم، في كل مدن المغرب، شرقا وغربا، ومنهم من يحمل عبء عائلته الصغيرة، إلى جانب عبء عائلته الكبيرة، مطلوب منه أن يؤدي فاتورة الدواء، والكراء، والويفي، والكهرباء، وقرض السيارة التي تنقله لعمله النائي، كل صباح، أضف لكل هذا ثمن دراسة الأبناء، و....واجبات كثيرة تحتاج أجرة جيدة، تليق بمربي الأجيال الذي يطلب منه الهندام الجيد، والراحة النفسية والعصبية، حتى يؤثر إيجابًا في تلاميذه، ويمنع القانون مزاولته أي عمل آخر دون ترخيص، كما يمنعه القانون من إنجاز مشروع خاص، أو امتلاك متجر. والتعليم مهنة تحتاج للاستقرار النفسي والعاطفي والمادي لكي يكون الأستاذ فاعلا ومؤثرا، إنها المهنة الشاقة التي تتطلب العمل بكل الحواس السمعية والبصرية، العقلية والمعرفية والجسدية، التي لن تأتى إلا بالإحساس بالاستقرار، والأمن المادي والاجتماعي، بعد ذلك نطالبه بما شئنا من مهام فهو أهل لها.
تعليقات
إرسال تعليق