القائمة الرئيسية

الصفحات

تربويات: أنقذوا المدرسة، سنة2022! (قصص واقعية من يوميات معلمة)


تربويات: أنقذوا المدرسة، سنة 2022! (قصص واقعية من يوميات معلمة)

دخول مفاجئ للقسم (تربويات)

أنقذوا المدرسة


دخلت القسم دون وعي منها ، اتجهت رأسا نحو المدرسة المنهمكة في شرح الدرس، من خلال التخطيط على السبورة، قالت بصوت يبدو عليه التأثر :

-"أستاذتي لقد اشتقت إليك كثيرا"

لم تدر عائشة، ما الذي وقع؟ وجه مألوف لديها، ولكن ما هذه الجرأة؟ التي لم تعهدها من قبل؟ كيف تدخل دون استئذان؟ حتى دون طرق الباب،  آه لقد تذكرت رغم دهشتها هذا الوجه الجميل، إنها راضية، تلميذتها المحبوبة التي درستها منذ سنتين، كيف تنساها، التلميذة المجدة ، الخلوقة ، الرائعة، لقد تغيرت قليلا، لكنها أبدا، لا يمكن أن تنساها، عانقتها بشدة، أمام ذهول التلاميذ الجالسين ، وهم يرقبون المشهد العجيب، حقا إنها راضية، نظرت المدرسة للتلاميذ بعيون يملؤها الفخر والابتهاج، وهي تضع يدها في يد راضية، وقالت بنبرات اعتزاز:

- إنها  راضية، تلميذتي النجيبة المتألقة، لقد كانت أحسن تلميذة في الفصل الإعدادي، وحصلت على أعلى معدل جهوي، والآن تدرس…

التفتت نحو راضية لتؤكد لها المستوى الجديد:

-"أدرس في قسم الأولى بكالوريا، علوم رياضية"

نطقت كلماتها الأخيرة بتلعثم أثار استغراب الجميع، لكن المدرسة عائشة بررت الموقف، بالإحراج الذي قد يسببه الوقوف أما عدد كبير من التلاميذ، طلبت منها أن تجلس في الصف الخلفي، حتى تكمل حصتها، وفي فترة الاستراحة يتبادلان معا أطراف الحديث، أومأت برأسها إيجابا، وانزوت إلى الخلف، أما عائشة فقد أتممت حصتها بكل تركيز وشغف، غير أنها لاحظت أثناء مواصلتها لشرح الدرس تلميذتها النجيبة، تلتفت يمينا ويسارا، وبين الفين والأخرى تقوم بحركات غريبة، فسرت عائشة السلوك بأنه مجرد توتر لحظي، أو قلق عارض، فلم تعر الأمر اهتماما، بل ركزت كل جهدها على أداء مهمتها بامتياز، رغم أنها كانت تلحظ بين الفينة والأخرى نظرات مستغربة في عيون التلاميذ الذين يسترقون النظر إلى الخلف، فتحثهم على الانتباه بكل صرامة.

راضية غير طبيعية (تربويات)

وما إن رن الجرس مؤذنا بنهاية الحصة، حتى ودعت تلاميذها، واتجهت رأس إلى الخلف، لتجلس قرب راضية المتوترة، وكلها شغف في أن تعرف سبب اضطرابها، وسر قلقها، سألتها باهتمام:

-" هل يقلقك شيء يا راضية؟ لماذا أنت متوترة؟"

ردت راضية بصوت متلعثم:

-" أستاذتي الغالية، اشتقت إليك، وأردت زيارتك، هذا كل ما في الأمر، وأنا سعيدة بهذا اللقاء، لا أقل ولا أكثر." 

قالت عائشة مبتسمة، وهي تمرر يدها على ضهرها:

-" متأكدة، لا أقل ولا أكثر"

ردت راضية ارتباك:

-" بل أريد أيضا أن أستشيرك في أمر آخر"

-" ما هو؟ كلي آذان صاغية"

-" أحب شابا، وقد قرر أن يطلبني للزواج، وهو من عائلة ميسورة، لكن أخاف أن يرفض والدي الأمر بحجة الدراسة"

-" هل يدرس معك"

-"لا"

-" كيف تعرفت عليه إذن؟"

-" يزور مدرستنا مرة مرة، وألتقي به أحيانا أمام باب المؤسسة"

كررت عائشة سؤالها:

-" كيف تعرفت عليه؟"

- " مرة وقعت في غيبوبة أمام باب المؤسسة، فوجدته يشد بيدي، ويدعمني، لم أدر كيف توطدت علاقتنا بعد ذلك؟"

-" هل تقدم لخطبتك رسميا؟"

-" لا، ليس بعد، ولكن أبي سيرفض، وهو شاب ميسور، لا يرفض، كلما وقعت في غيبوبة أجده بجانبي"

-" ولما الغيبوبة؟ هل أنت مريضة؟ وكيف تجدينه دائما بجانبك، أمر غريب..."

لاحظت عائشة بفراستها، أن راضية في وضعية غير طبيعية، وكأنها تهذي بكلام متقطع، غير منطقي، استدرجتها قائلة:

-" هل عندك هاتف أمك، يمكن أن أتكلم معها وأقنعها، رغم أنك لازلت في المرحلة الثانوية، ولم تحصلي بعد على البكالوريا، ولكن سأحاول إقناعها، لتقنع بدورها أباك، فالزواج أفضل من علاقة لا نعرف عواقبها"

ترددت راضية في بداية الأمر، لكنها ما لبثت أن خطت في لحظة على الورق بضعة أرقام، لم تدر عائشة مدى صحتها، ولكنها تلقفتها منها بسرعة، وعانقتها لحظة من الزمن، وطلبت منها أن تزورها مرة أخرى لتعرف نتيجة وساطتها في الموضوع.

انصرفت راضية إلى حال سبيلها،  وتركت عائشة مذهولة لا تدري ما تفعل وهي ترى أحب تلميذة إلى قلبها، والتي تمنت في أحد الأيام أن ترزق بابنة تشبهها خلقا وخلقا، في وضعية غير طبيعية، وكأنها تهذي بكلام غير مفهوم، وغير منطقي، وتقوم بحركات لا إرادية، تعبر عن انفعال عصبي لا مبرر له. أتممت حصصها المتبقي محاولة قدر الإمكان التركيز على حصتها، والسيطرة على مشاعر الدهشة والشفقة، التي سيطرت عليها، وبمجرد الانتهاء من حصتها الدراسية، شغلت الهاتف النقال لتتواصل مع والدة راضية، فلن يهدأ لها بال، ولت تذوق اللقمة، حتى تعرف القصة كاملة.

أنقذي ابنتك، إنها في خطر(تربويات)

رن الهاتف طويلا، ولم يجب أحد، عاودت الكرة مرتين لتسمع نبرات صوت أنثوي تجيب في المرة الثالثة:

-" ألو، من معي؟"

-" أنا عائشة، مدرسة راضية سابقا، في القسم الإعدادي، هل يمكن أن أزورك الآن، الأمر يهم ابنتك، على وجه السرعة"

-" مرحبا أستاذة، أنا في انتظارك"

-" المكان، والحي ، ورقم البيت"

تلقفت عائشة العنوان بسرعة، وسجلت الموقع في هاتفها، لتستقل سيارتها بسرعة البرق نحو المكان المحدد، لم تجد أي صعوبة في تعرف المسكن الخاص بأهل راضية، فقد وجدت الأم واقفة أمام الباب تنتظر الزائرة وكلها لهفة لمعرفة الأنباء الجديدة التي تخص ابنتها الحبيبة، المفضلة، رمقتها بعيون حائرة وهي تطلب من الصعود إلى أعلى، لكن رفض عائشة للصعود كان قرارا لا رجعة فيه، بل طلبت منها أن ترافقها للسيارة لتكلمها، في أمر خاص، بعيدا عن مسمع ومرأى أي فرد من العائلة. 

دلفت الأم إلى السيارة، لتجلس في المقعد الأمامي وهي ترتعد من شدة التوتر والقلق، وتردد بعصبية:

-" ماذا هناك، ابنتي راضية، أين هي؟هل أصابها مكروه؟"

-" ابنتك بخير، فقط أزعجني قدومها عندي هذا اليوم، لم تكن عادية أبدا"

-" كيف ؟"

- " كانت في حالة هلوسة غير طبيعية"

-" بمعنى؟؟"

- " تحدثت عن خطبة، حب، غيبوبة، رفض أب، هل لديك فكرة عن كل ذلك؟"

-" لا ليس لدي أي فكرة، فعلا تبدو هذه الأيام مضطربة، فسرنا الأمر، وقلنا أنه توتر ناجم عن ضغط الدراسة، خاصة مع قرب الامتحانات"

-" أشك في أمر ما، راقبي ابنتك، واسألي عنها في الثانوية الجديدة، هناك أمر جلل يقع وأنت لا تدرين شيئا، أنقذي ابنتك"

شعرت الأم بصدمة كبيرة، وكأن الأرض تدور بها بسرعة الريح، أوشكت أن تفقد توازنها من هول ما تسمع، حب، زواج، هلوسة ما الذي يحدث؟ حاولت عائشة تهدئتها، مؤكدة ضرورة فحص الموضوع، وتتبع حالة الفتاة.

أنقذوا ابنتي،  إنها في خطر ! 

(تربويات)

في اليوم الموالي، وبينما تستعد عائشة للقيام لإنجاز وجبة الغذاء لأبنائها، رن الهاتف، إنه رقم أم راضية، أجابت بسرعة:

-" نعم سيدتي، هل من جديد؟"

-" أستاذة، لقد فعلت ما طلبته مني، ذهبت إلى الثانوية، ابنتي، ابنتي في خطر"

-" ماذا هناك، هل ما أشك فيه صحيح؟"

-" أخبرتني الإدارة أن ابنتي لا تذهب للمدرسة، وهي متغيبة منذ مدة تفوق الشهر، ونحن لا ندري، تذهب في نفس حصصها المدرسية، ولكنها لا تدخل الفصل؟"

-" أين تذهب؟ ولماذا لم يخبروك بالموضوع منذ البداية؟ أف "

-" لقد فحصت هاتفها حين غفلة منها ليلة أمس دون أن أخبرها ما وقع بيني وبينك؟، فوجدتها تطلب في أحد رسائلها عبر الواتساب، الجرعة المناسبة من الهروين، الهروين أستاذة، ابنتي تتعاطى أقبح أنواع المخدرات، وأنا غافلة، ابنتي ستجن، إنها لا تتوقف عن الهلوسة، أتدرين من هو الشاب الذي يقدم لها الجرعة؟ إنه العريس الذي حدثتك عنه، ابنتي ضاعت ضاعت ضاعت...سأغسل عارها بيدي، أو بيد أبيها"

رددت كلماتها الأخيرة وهي تجهش بالبكاء، ثم تابعت كلماتها قائلة:

-" أكره المدرسة، ليتها لم تتعلم أي حرف، فقط تبقى ابنتي الطاهرة السوية، ماذا ربحت من تعليمها؟ ماذا جنيت؟ لقد تحولت ابنتي إلى عاهرة، عاهرة..."

قطعت عائشة المكالمة، وتوجهت رأسا نحو بيت راضية، لكنها صعدت إلى الأعلى هذه المرة، ولما دخلت البيت، عانقت الأم بحرارة، بعد أن وجدتها منهارة وهي تجلس على الأريكة،   وقالت بثقة، وكأنها تريد من خلالها ضبط التوتر الذي سيطر عليها:

-" ابنتك ضحية سيدتي،  ضحية الأباطرة الذين ينتشرون في المدارس كالفطر، ويبثون سمومهم في الكبير والصغير، ابنتك ضحية المدارس العمومية التي لا تخبر الآباء بغياب أبنائهم، ترمي التلاميذ خارجا عندما يتغيب مدرس أو مدرسة، دون أن أن يعي مسؤول هناك أنه يرمي مراهقين لا ذنب لهم ودون علم أوليائهم في الشارع، ابنتك ضحية إهمالك لها، لأنك لا تسألين عنها كل الوقت، ولا تتفقدين أوضاعها هناك، ابنتك ضحية مجتمع فاسد، وقد تكون راضية ضحية شبكة من مروجي حبوب الهلوسة في البداية على أنها حلوى عادية، أو شكلاطا ملغومة تقدمها صديقة غيورة، أو حبيب مدعي، أو بائع أكل سريعة يحط عربته أمام باب المدرسة، وينفث سمومه في التلاميذ الذين يجبرهم البعد على قضاء الوقت هناك، وتناول الوجبة السريعة، في انتظار الحصص المسائية، يقع كل ذلك في غفلة من الآباء ولامبالاة من الإدارة، ولا اهتمام من المسؤلين عن المدرسة

- " ما الحل أرجوك، لقد فقدت البوصلة، ويعجز عقلي عن التفكير، أنا أم فاشلة، فاشلة...؟

- " لا تلومي نفسك، كلنا مسؤولون، فتحنا مدارس دون قوانين ودون ضوابط، فتحولت مدارسنا إلى وكر للمخدرات، سنعالج راضية في مصحة خاصة، وأنا من سيتكلف بعلاجها، لأني أشعر أيضا أنني مسؤولة بشكل من الأشكال، إنها ابنتي أيضا، كما أننا سنرفع دعوى قضائية ضد المدرسة التي لم تخبر عن طالب قاصر تغيب مدة شهر كامل، إنها فعلا مهزلة"

خرجت عائشة متحسرة، تجر خطى متثاقلة نحو بيتها من هول الصدمة، وفي ذهنها ألف سؤال وسؤال، كم من الضحايا ضاعوا بسبب الإهمال الإداري، وغياب التقنين المعقلن للمدارس، كم من متمرس أضحى فريسة للمخدرات، أو رمي في أحضان شبكة الدعارة، أو تورط في جرائم بسبب حصة غياب واحد لمدرس غير مسؤول، أو تعرض لطرد في لحظة غضب، أو جلس بين الساعات في أحد أركان المدرسة ينتظر الحصة الموالية، لأن المدرسة لا تجد فضاء يأويه ولا مؤطرا يحرسه في تلك الحصة الفاصلة، والأسرة نائمة في العسل، لا تدري شيئا، وعندما تسأل الأم تجيب بكل افتخار وزهو، ابني في المدرسة....  

 




 






تعليقات